دوّر يمكن تلاقي

بحث مخصص

السبت، ٢١ نوفمبر ٢٠٠٩

المحارب والحسناء الحزينة - اثنان




كتبت هذه القصة منذ عامين تقريبًا.. ولم أستكملها كعادتي البغيضة.. لذلك سأكملها الآن.. وأرجو أن تسامحوني على الغياب الطويل..




************


انطلق المحارب إلى حيث الجبال البعيدة، حيث لا أحد عاد.. ولا أحد نجا..

يضرب جواده الأرض فتتناثر ذرات الرمال وتتغير مواقعها، لكنه لا يتهم، فالحسناء تخطو نحو النهاية وعليه أن يسبقها إلى ذلك..

وقبل أن يصعد القمر لعرشه الليلي، كان يصل لأول جبل في سلسلة الجبال الممتدة وكأنها الأبد.. ترجل وهمس لجواده ألا يبتعد.. فظل الجواد واقفًا كأنه صنم، بينما تطاير معرفته يدل على الحياة التي تدب فيه..

جرّد المحارب حسامه ثم أغمض عينيه ليتذكر تلك النظرة التي رمقته بها الحسناء الحزينة، النظرة التي عرف عن طريقها أنه لم يحب من قبل ولم يعرف لتلك الكلمة معنى أو طريقًا.. لم يعرف قلبه كيف يخفق إلا كي يعيش.. تذكر كل تلك الكلمات التي قرأها في عينيها.. كل تلك العوالم التي طافت فيها وطاف معها كذلك.. تذكر شعرها الأسود المنسدل رغم مرضها ليزيدها تألقًا ويؤكد حزنها الدائم.. تذكر شفتيها وما نطقته من أحرف لم تقلها صراحة.. لم تبتسم ولكنه رأى ابتسامتها ولم تنطق باسمه لكنه سمعه بصوتها في وضوح..

إنها الحسناء الحزينة التي أيقن برؤياها أنها سكنت قلبه.. أنها كانت حلمه المفقود.. وكابوسه الذي ما خاف منه.. وكيف يخاف من كابوس يعشقه؟

الحسناء الحزينة التي أيقن أنه يحبها.. ويعشقها عشقًا مبرحًا مؤلمًا.. حتى لو لم تنطق شفتاه بتلك الكلمة.. لكن كل خلية في جسده صارت تنطقها.. يحبها حتى وهو يعرف أنه لن يقول لها تلك الكلمة ليكون حبهما متجددًا لا يرتبط بأية تقاليد مرهقة، وأطر محددة..

فتح عينيه في تلك اللحظة متخليًا عن ذكرياته بصعوبة.. ليجد أمامه أول الأهوال.. طويل عملاق يسد عليه الأفق.. يسد عليه الطريق بضخامته المفزعة وعيونه التي تقطر نيرانًا تحرق الأرض وتصهر الصخور.. لكنه لم يهتز لقد رفع السيف عاليًا وصرخ صرخة اهتزت لها الصخور بعد انصهارها وازدادت انصهارًا.. صرخة تجمدت لها النيران في عيني العملاق الذي فتح قبضتيه مشهرًا سيوف مخالبه.. لكنه لم يكمل فتحها.. لم يجدها مستقرة في أماكنها بعدما أطارها حسام المحارب في لمحة كالبرق بل أقل قليلا.. وفي لمحة أخرى كان العملاق على ظهره يفترش الأرض والحسام على حافة عنقه والمحارب فوق صدره يقف شامخًا..


*******


في قلب الجبال كانوا يشاهدون ما يحدث.. ارتجفت قلوبهم رجفة لم يعرفوها منذ زمن بعيد.. هذا المحارب لم يمر مثله من هنا قط من قبل.. فالحارس العملاق لم يصمد أمامه ولم يقاتل من الأساس.. نيران المشاعل على جدران القاعة ارتجفت.. الصخور التي تكونت منها الجدران ذاتها ارتعشت..

أشار كبيرهم بيده نحو بلورة متألقة في الركن فتكونت بداخلها السحب وتكاثرت، ثم انقشعت.. فارتفع صوت المحارب وهو يحدّث العملاق المنهزم ويطالبه أن يدله إلى قلب الجبال.. حيث دواء يريده ولا يريد غيره..

تألقت عينا الكبير وعرف مراد المحارب.. التفت إلى أقرانه الذين هزوا رؤوسهم لأن مطلبه مستحيل..

قلب الجبال لا يدخله غريب ولا يغادره حي..

مرة أخرى أشار الكبير نحو البلورة فتكاثرت هذه المرة غيوم سوداء.. لن يمر المحارب من بوابة الجبال مهما كان..


*******


أخذ المحارب يطرق الأرض بقدميه وهو يسير متحفزًا واثقًا.. يرى الموجودات بعينيه أما قلبه فلا يرى إلا الحسناء الحزينة.. لا يشم إلا رائحتها العطرة.. لا يسمع إلا صوتها الذي ما خرج من فمها.. لا يذكر إلا نظراتها قبل أن يفترقا..

أما كان لهذا العشق أن يأتي مبكرًا؟ أما كان له أن يطرق الأبواب في وقت آخر.. لينعم بها وتنعم به.. ليصنع من شعرها الأسود الناعم ضفائر وجدائل سرعان ما تنفك لتصير شلالا من جديد؟

ظل يسير والأشواق تحرقه حتى شعر بتذبذب الأرض تحت قدميه.. لم يكن غيره ليلاحظ هذا التذبذب الطفيف.. لكنه المحارب القوي الذي أتى من تلك البلاد التي تتناثر فيها الزهور في الوديان وتتناطح فيها الجبال والسحب.. ما كان غيره ليشعر ويملك غريزة المحارب وقلب العاشق المرهف..

كان بين جبال شاهقة تحاصره من كل صوب.. ثم أظلمت السماوات فوقه مع انتشار الكيانات الخارجة من بطون الجبال لا مادية ولا شفافة.. أخذت تدور حوله في سرعة كالأعاصير فهبت الرياح الساخنة عليه، وأخذت تضرب كل حجر وصخر.. كل جماد في المحيط الملتف حوله.. ثابت الوجدان وقف لا يتزحزح.. رداؤه يكاد يتمزق وكل خيط ينحل من رباطه ويتحرر من تشابكه بالخيوط الأخرى..

لف قبضتيه حول مقبض الحسام قبل أن يرفعه عاليًا ليتألق بضوء أشد من البرق لمعانًا.. يخطف الأبصار والأفئدة.. لا يبقي ولا يذر.. قبل أن يدير حسامه في الفراغ فوقه مرة وثانية وثالثة وعاشرة.. يديره بقوة أكبر.. تنتفخ عضلاته وتبرز عروقه.. تنحل الخيوط من ردائه أكثر وأكثر..

تنطلق الشرارات من حسامه فتصيب الكيانات السوداء الغائمة.. فيتصاعد صراخ حاد طويل يذهب بالأسماع ويحطم العظام ويسحق كل ما هو حي ومادي.. ثم يدور بحسامه أكثر وأكثر.. لتتهاوى الكيانات من حوله وتتلاشى بينما صراخها يكاد يعصف بسمعه وكيانه..

ثم صمت كل شيء بسقوط آخر الكيانات وتلاشيه.. ليتلاشى معهم الظلام ويعود النور ليسيطر على المحيط كله..

وقف المحارب شامخًا بينما يعود حسامه إلى جواره منتصرًا..

هكذا لم يكن هناك مناص من ظهور كبير الجبليين بنفسه متسربلا في عباءته السوداء الأشد ظلامًا من الليل ليقف أمام المحارب الشامخ الذي هزم أقوى حراسه كما لم يفعل أحد من قبل..

تساءل لماذا هو هنا؟ وما سر قوته؟ وأين كان طوال الأزمنة الماضية؟ لكن المحارب لم يجب إلا على سؤاله الأول.. أنه هنا من أجل دواء لحسناء مريضة.. يجب أن يحضره أو يموت.. وهو مستعد أن يبذل كل ما في وسعه لإنقاذ معشوقته الرقيقة الحزينة.. أروع معشوقة في الكون..

تأمله كبير الجبليين طويلا.. ثم استدار وهو يطلب منه أن يتبعه.. حتى بلغا معًا القاعة ذات البلورات.. حيث أشار الكبير بيديه نحو البلورات المتناثرة في كل مكان.. فأخذت تومض وتبرق وتسطع عبرها ألف شمس وقمر.. قبل أن تبدو بين أدخنتها الحسناء الحزينة راقدة مغمضة العينين فطفرت الدموع من عيني المحارب وهو يهوى على ركبتيه من جديد وكأنه يراها للمرة الأولى.. الجبين الواسع والعينين الساحرتين رغم انغلاقهما.. الأنف والشفتين.. الشعر الذي يحيط برأسها كمحيط صافٍ يحيط بجزيرة غناء.. كم يتمنى لو أنها معه الآن ليحتضنها ويبثها حنانه وعشقه الجارف.. ليعوضها زمانًا لم يكن معها فيه.. لقد قرأ في عينيها حين نظر فيهما المرة الأولى سؤالها.. وتمنيها.. يا ليتني عرفتك منذ زمن.. قرأ هذا الكلام ولم يسمعه.. تذكره الآن وهو يتأملها من جديد..

تأمله الكبير وتأملها وعرف كل الأسرار.. أدرك أن المحارب ذو البأس له قلب يخفق ويعشق.. وأن معشوقته تكاد تذهب من الدنيا وتحلق روحها في الآفاق العليا حيث لا يمكنه الوصول.. لكنه كان يعرف الدواء.. الدواء المستحيل..

المحارب لم يكن مستعدًا لسماع المستحيل.. هناك دواء وسيأخذه لمعشوقته.. أخبره الكبير أن الدواء داخله.. الدواء يكمن في قلب المحارب.. يمنحهم قلبه فيستخرجون الدواء لها.. أطرق المحارب برأسه غير مفكر.. فلا تفكير في الأمر.. بحسامه شق صدره فجأة وبلا سابق تنبيه.. مد يده إلى قلبه وأمسك به نابضًا لكن الكبير منعه من الإكمال.. سيقومون هم بأخذه.. فقط يترك نفسه لهم تمامًا..


******


في أرض الحسناوات وقفت الحكيمة تطلع إلى الجبال في الآفاق البعيدة.. ترى الدخان الأحمر يملأ سماء الجبال ويحيط بها.. ينقبض قلبها.. تعرف أن المحارب قد نال الدواء الذي يريد..

وفي الأفق القريب كان هذا الموكب.. الجبليون بالعباءات السوداء يتقدمون وكبيرهم يمسك بوسادة مخملية رقدت عليه قارورة ملآنة بسائل وردي اللون.. وقف أمام الحكيمة فاردًا ذراعيه ليناولها القارورة.. قبل أن يتراجع مستديرًا نحو الجبال مرة أخرى يتبعه مرافقوه..

أما الحسناوات فقد وقفن يبكين وقد علمن معنى وصول الدواء دون المحارب..

غابت الحكيمة داخل حجرة الحسناء.. وطالت غيبتها وطالت وطالت.. الفراشات توقفن عن الطيران.. والأزهار كفت عن التفتح.. الدموع أغرقت الأرض وصنعت نهرًا من الماء المالح المختلط بالحزن.. فنبتت على ضفافه أزهارًا داكنة يتساقط من أوراقها الدمع..

ثم انفتح الباب وخرجت الحسناء متوردة الخدين بكامل رقتها المعهودة.. وكأنها بثت الحياة في أرض الحسناوات فطارت الفراشات وتفتحت الأزهار من جديد.. جف نهر الحزن وذبلت أزهار الكآبة.. تصاعدت الموسيقى من شفاه الحسناوات وهن ينشدن نشيد الحياة المستردة..

لكنها كانت تنظر حيث الجبال.. حيث محبوبها الذي رأته كالحلم.. الذي تمنت لو أنها عرفته منذ الأزل.. الذي منحها الحياة ولم يعد ليعيشها معها.. وكأنما لا ينفع الجمع بينهما.. بين الحياة وبينه..

هكذا صار المشهد المألوف كل يوم وكل سنة.. الحسناء تجلس على باب حجرتها ناظرة إلى الجبال منتظرة.. فلا تحدث احدًا ولا تهمس لأحد بسرها إلا الفراشات..

تنظر علّه يومًا يظهر في الأفق وهو يعود.. لترتمي بين ذراعيه.. ليبثها عشقه ويحميها..

ليكون محبوبها الأوحد.. وتكون أنشودته ورائعته.. وأروع ما لديه في الكون..


********


تمت
Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...