كعادته كل صباح باكر، أمسك بالذراع المعدنية للبوابة الحديدية الكبيرة التي يعلوها الصدأ، و تزينها - أو تلوث سطحها - كتابات و رسومات طفولية بالطبشور الأبيض.. سحبها بالقوة التي تسمح بها ذراعه الواهنة ليفتح البوابة على مصراعيها و يعلن بدء يوم دراسي جديد..
بقامته المحنية يشد الخرطوم الأخضر الممتد من داخل حجرته البسيطة إلى حدود البوابة.. يلقيه أرضًا ثم يعود أدراجه ليفتح الصنبور.. بعدها يعود ليمسك بفوهته ضاغطًا عليها ضغطة خفيفة لتخرج المياه باندفاع و يغمر رذاذها الأسفلت، ممتزجًا مع الأتربة فوقه، فتتصاعد رائحة رطبة منعشة رغم كل شيء.. تمر الدقائق و تنساب كما ينساب الماء من الخرطوم، حتى يبدأ التلاميذ فى التوافد..
أطفال يحملون الحقائب المصابة بالتخمة، يحاولون أن يفتحوا أعينهم قدر المستطاع بعد السهر فى كتابة الواجبات المدرسية حتى وقت متأخر.. تتألق أزياءهم الموحدة و التي ستفقد بريقها بعد الطابور الممتليء بالثني و المد وسط رمال الفناء و أتربته التي تعلق في الأحذية و الحقائب و لا تتراجع أبدًا !!
" صباح الخير يا عم (سعيد) "
يقولها أحد الأطفال و هو يعدو نحوه مادًا كفه الصغير، فيمد عم (سعيد) رسغه متمًا المصافحة و هو يرد:
- صباح النور يا بني..
- ممكن أشرب يا عم (سعيد) ؟!
- الشرب مفيهوش استئذان يا (إسلام).. اشرب بس إوعي تبل هدومك..
فيوميء (إسلام) برأسه، ثم يمد كفه نحو طرف الخرطوم و يضم شفتيه لينهل من المياه المتساقطة، قبل أن يرتوي تمامًا و يندفع إلى الداخل ليلحق بالمركز الأول فى الطابور.. يظل عم (سعيد) يراقبه حتى يندمج مع الصغار، بعدها يبدأ فى سحب الخرطوم إلى الداخل مرة أخرى..
تأتي سيدة ممسكة بيد طفلها و حاملة عنه الحقيبة، فتبدو على وجهها إمارات الإرهاق و اللهاث من هذا المجهود، فتلقي السلام على عم (سعيد) الذي استقر على الدكة الخشبية محاولا فرد ظهره.. تتوقف سيارة ميكروباص لم يعتن بها صاحبها منذ فترة، فتفرغ ما فى جوفها من أطفال لتبتلعهم بوابة المدرسة المفتوحة، و أثناء ذلك يهبط السائق بنية إلقاء السلام على عم (سعيد)..
" صباح الفل يا عم (سعيد).. إيه يا عمنا هو الشباب مش بيخلص من عندك و لا إيه ؟! "
يرفع عم (سعيد) رأسه ضاحكًا لتظهر أسنانه التي تناقصت و هو يقول:
- يا راجل يا بكاش..
يخرج السائق سيجارة و يمد يده بها إلى عم (سعيد)، فيضحك الخير مرة أخرى..
- يا بني خلاص.. بطلتها من زمان.. هو أنا عاد فيا صحة للحاجات دي ؟!
- يا عم (سعيد) ده أنت تشرب مصنع سجاير.. ربنا يديك الصحة..
- و يديمها عليك يا بني..
- مالك يا عم (سعيد).. حاسك متغير..
- مفيش يا بني.. متشغلش بالك..
- إزاي بقى ؟!.. ده أنت زي أبويا.. خير بس فى إيه ؟!
- أبدًا يا بني.. بس كنت بافكر في بنتي..
- أنت لسه متعرفش حاجة عنها يا عم (سعيد) ؟!
- هأعرف منين بس يا بني !! من ساعة ما اتجوزت و جوزها خدها على الخليج.. و لما سألناه فين ؟!.. سكت شوية كده و راح قايل الخليج.. طب ما هو الخليج كبير و واسع و عريض.. يقصد فين بس و لا فين..
- متقلقش يا عم (سعيد) بكرة تشوفها تاني إن شاء الله..
- و أنا ضامن أعيش لبكرة يا بني.. لما ماتت المرحومة مراتي، قلت هأشوف بنتي.. ما هي لازم تيجي تعزي في أمها.. بس برضو لا حس و لا خبر مفيش غير التلغراف اللي بعتته.. حتى لما سبت البيت لأصحاب العمارة و جيت قعدت هنا في المدرسة.. قلتلهم على مكاني.. و وصيتهم.. لو بنتي جت في أي وقت يدوها العنوان على هنا.. و الله يكرمه (محمود) ابن صاحب البيت.. كل يومين تلاتة ييجي يشقر عليا.. يشوفني لو عاوز حاجة.. كنت كل مرة أسأله عليها.. مفيش أخبار عنها ؟ مفيش جوابات وصلت منها ؟.. و هو يقولي مفيش يا عم (سعيد).. لغاية ما بطلت أسأله خلاص..
- يا عم (سعيد) ربنا يديك الصحة.. و بعدين إحنا حواليك.. و لا إحنا مش ولادك برضو ؟
- ولادي طبعًا.. ربنا يخليكوا و يوسع لكم في رزقكم..
يخرج السائق عود كبريت من علبته و يضربه فى جانبها الخشن، قبل أن يميل نحو اللهب بطرف السيجارة الملتصقة بشفتيه و يشعلها بدورها بعد أن أخذه الحديث مع عم (سعيد).. نفس فأخر ثم ينهض و هو يربت على كتف عم (سعيد) الذي رفع إحدي قدميه على طرف الدكة متكئًا عليها بساعده..
- تؤمرنيش بحاجة يا عمنا ؟!
- الأمر لله يا بني..
- هأبقى أفوت عليك بعد الضهر و أنا جاي أخد العيال
يتابعه عم (سعيد) بنظره، قبل أن يعود ليغرق في أفكاره..
*************
في ذلك الصباح فتح عم (سعيد) بوابة المدرسة و عينيه تحملان بريقًا ما رغم انحناء ظهره.. جلس على دكته الخشبية، و قبضت يداه على علبة صفيح متوسطة الحجم مزينة بأوراق ملونة، و عقله يفكر في نقطة بعيدة.. ظل على جلسته هذه حتى ارتفعت الشمس إلى منتصف السماء، حيث بدأ القلق يحفر نفسه على ملامح عم (سعيد)، الذي بدأت قبضته ترتخي على العلبة الصفيح.. حتى مر من أمامه الأستاذ (منتصر) مدرس العلوم..
- بأقولك إيه يا أستاذ..
- أوامرك يا عم (سعيد).. خير ؟
- خير يا بني.. هو مش النهاردة نتيجة الابتدائية ؟!
- أيوه يا عم (سعيد)..
- أمال مفيش حد من الولاد جه يشوف نتيجته ليه ؟
ضحك الأستاذ (منتصر) ضحكة صغيرة، ثم أجابه:
- السنة دي النتيجة بتطلع على الإنترنت يا عم (سعيد).. بتطلع على الكمبيوتر و يجيبوها و هما قاعدين في بيوتهم..
انخفض صوت عم (سعيد) و هو يقول بوجه هربت منه الدماء:
- يعني محدش هييجي يشوفها من المدرسة ؟!
- لا يا عم (سعيد).. هو أنت مستني حد يعني ؟ و لا عاوز تطمن على نتيجة حد ؟!
ترقرق الدمع في عيني عم (سعيد) و هو يقول بصوت مرتجف:
- لا أبدًا.. أنا بس كنت عاوز أطمن على ولادي.. دول ولادي برضو..
- ربنا يخليك لينا يا عم (سعيد).. استئذنك أنا..
تركه الأستاذ (منتصر) و اتجه لوجهته، بينما أحني عم (سعيد) رأسه، و نظر مليًا إلى العلبة الصفيح التي يجمع فيها ما يجود به أهل الأطفال الناجحين كل سنة.. و ابتلع ريقه من جديد.. تلك العلبة كانت تعني له تذكرة قطار.. و لعبة ثمينة.. بعض الفاكهة و الشوكولاتة..
أغمض عينيه و هو يشعر بالألم، قبل أن يقول بشفتين مرتجفتين:
- قدر الله و ما شاء فعل..
في نفس اللحظة.. تطايرت ورقة صغيرة كانت قابعة إلى جواره على الدكة.. مكتوب فيها:
" والدي العزيز.. نزلت مصر فى إجازة لمدة تلات أيام.. إحنا دلوقتي في المنصورة.. أنت عارف.. أهل (هاني) كلهم هنا فى المنصورة، أنا حبيت أبعتلك و أقولك علشان تطمني عليك.. و عشان أقولك كمان إني جبت (ولاء).. بنت زي القمر و طالعالي.. يا ريت تقدر تيجي يا والدي علشان نفسي أطمن عليك.. بنتك (إلهام) "
*************
تمـــــــــت بحمد الله