أ/ أحمد مصطفى عبد القادر المصري
7 مايو 1925 ميلادية - 16 أغسطس 2011 ميلادية
تصويري في 11 مايو 2011
الآن أكتب..
لأن الرغبة في الكتابة لا تموت.. لكن القدرة على الكتابة هي التي تفعل..
لا أعرف تحديدًا ما الذي سأكتبه..
فكّرت أن أكتب عمّا يجيش بداخلي من مشاعر مضطربة لا أفهمها.. لكنني توقفت عند تساؤل مهم: كيف سأكتب عمّا لا أعرف؟
هناك بعض المقولات الخرقاء التي لم أكن أومن بها في السابق.. عن الفرحة الشديدة التي تصيب الإنسان في وقت من أوقات حياته، فيمشي في الأرض مرحًا، غير مُدرك أن الفرحة في الحياة هي الاستثناء، بينما القاعدة هي أن تمشي مكبًا على وجهك حزينًا بائسًا وحيدًا مهما كثر العدد من حولك، ومهما أحاطت بك الأسماء..
الأسماء..
إن هي إلا أسماء سميتموها..
لم أكن أعتقد في ذلك.. حتى جاءت العلامات والدلالات.. فآمنت..
كانوا يقولون أن أمام كل روح تغادر جسدها، روح أخرى تعمّر جسدًا آخر وتبدأ معه رحلة في الحياة.. لكنني اكتشفت أن أمام كل روح تفارق جسدها، روح أخرى تموت داخل الجسد الحيّ.. فلا هي تركته يموت.. ولا هو عاش الحياة كما ينبغي له أن يعيشها..
حين أغلق باب الغرفة كي أنام تنتابني تلك القشعريرة العجيبة التي لم أكن أعرفها من قبل..
لقد صرت وحيدًا ياولدي.. الغرفة التي كان يشاركك فيها ذلك العجوز الطيب قد صارت لك.. فارقك العجوز ليسكن غرفة أخرى لن يتركها إلا بقيام الساعة..
تتقافز في ذهني الذكريات..
في مثل هذا الوقت كان ينهض ويطلب منك مساعدته للقيام من الفراش..
وفي مثل هذه الساعة كان يطلب الإفطار..
في الظهيرة كان يفتح الأكياس البلاستيك لتزعجك أصواتها.. كي يُخرج علبة الدواء ويتناول القرص الذي يتناوله منذ أن وعيت على دنياه.. أنت لا تعرف ما كنه هذا الدواء.. لا تعرف إن كان للقلب الذي لم يشك منه العجوز من قبل إلا محض تخيلات واهمة..
لا تعرف إن كانت للضغط أم الصداع.. هل كانت أقراص الشباب الدائم ومحاربة الشيخوخة؟
أنت حقًا لا تعرف..
الآن تتمنى أن تعرف.. لكنك قد صرت وحيدًا ياولدي.. فمن تسأل ليجيبك؟
حينما تحزم حقائبك في الفجر لتسافر، كان هو آخر من تودعه.. تنحني لتعانقه لأنه لم يعد قادر على رفع عنقه لأعلى..
في المرة الأخيرة كان منزعجًا لأنك لن تتناول الإفطار معه في رمضان.. فكنت تهدئ من روعه وتخبره أن ظروف العمل تقتضي هذا، وتعده أنك ستأتي في إجازة العيد..
هل قلت إن شاء الله؟
ربما لم تقلها..
لأنك لم تتعلم الوفاء بوعودك بعد ياولدي..
الآن أنت تحزم حقائبك وتنظر للغرفة الخالية.. تبحث عن معانقة الوداع المعتادة فلا تجدها.. تقف مترددًا قبل أن تطفئ النور وتغادر..
تتقافز في ذهني الذكريات..
كنت تضع حذاءك أسفل السرير بالكامل حتى لا يدوس عليه العجوز وهو يمشي الهوينى فيتعثر.. والآن تخلعه وتدسه أسفل السرير ثم تتوقف.. وتخرجه وتضعه في أي مكان..
مرحى.. لقد صرت وحيدًا ياولدي..
حين اشتد عليه المرض يومًا منذ سنوات.. قال لك أنه يدعو الله ألا يموت إلا بعد أن يراك وقد تخرجت من الجامعة وصرت حاملا لشهادة عليا.. كنت تظن وقتها أن عمره قد ارتبط بتخرجك.. كنت تخشى الوقت الذي تتخرج فيه..
يوم أن حملت شهادة التخرج إليه كنت تريد أن تسعده.. لكن قلبك كان يخفق قلقًا.. هل تتحقق النبوءة الآن؟
بالله عليك قل لي.. لماذا تتخرج وأنت تعرف أنك ستفقده بذلك؟
كن سعيدًا إذن.. فقد صرت وحيدًا ياولدي..
اللغز الذي حيّرك لسنوات طوال صرت تعرف حلّه..
لماذا كان يخشى العجوز من إغلاق باب الغرفة عليكما وهو نائم، بينما أنت تبغى الهدوء كي تكتب أو تقرأ أو حتى تنام بعمق؟
حتى لا تعتريه تلك القشعريرة التي تعتريك الآن..
ربما أنت أقوى وأصغر سنًا لذلك تتحملها.. لكنه لم يكن ليتحملها..
تتقافز في ذهني ذكريات أبعد..
مخاوفك وأنت تنام في الغرفة المجاورة له في منزله القديم، وتسللك في الليل لتلقي عليه نظرة تتأكد منها أنه على قيد الحياة.. الصدر الذي يعلو بالشهيق ويهبط بالزفير يخبرك أنه هنا.. وأنك لم تفقده بعد..
الطعام الذي كان يعده كي تجده جاهزًا حين تعود من الكلية..
الإفطار الذي كنت تشتريه ساخنًا لتتناولاه سويًا في يوم الإجازة..
لم يكن له ابن ولا زوجة فكنت أنت ابنه الذي لم ينجبه.. فهل كنت بارًا بوالدك؟
تضع رأسك في ذات الموضع الذي شغلته رأسه.. فترتجف..
تتساءل بداخلك عن السبب الذي يدفعك أن تفعل ذلك، لكنك -حقًا- لا تعرف..
حتى هذه الكلمات..
لا تعرف لماذا تكتبها.. ولمن تكتبها..
هل هي رثاء؟ هل هي ما كنت تريد كتابته؟
لست أعرف إطلاقًا..
أتذكر فقط حين اشتد مرضه يومًا منذ فترة قصيرة.. وظللت ساهرًا إلى جواره أمرّضه، فأغفو بين الفينة والأخرى، ثم أفيق.. ثم أغفو.. فيطلب مني ألا أنام..
"متسبنيش وتنام لحسن أتعب لوحدي ومحدش ينجدني"
"متسبنيش"
"متسبنيش"
وتتردد الكلمة في عقلي بلا نهاية.. لا تتوقف لحظة..
لكنني تركته وذهبت..
وحين عدت، كان هو قد ذهب وتركني..
جلست إلى جواره أربت على جسده الهامد.. الجامد.. البارد.. فأسمع الكلمة تتردد من جديد..
"متسبنيش"
"متسبنيش"
"متسبنيش"
يغمره الماء في الصباح فتنفرج أجفانه عن حدقتيه الخاويتين من الحياة.. فأجدهما مثبتتين عليّ.. وتتردد الكلمة..
"متسبنيش"
"متسبنيش"
"متسبنيش"
أحمله مع الحاملين وأضعه في صحن المسجد.. أجلس إلى جواره.. أربت على جسده الذي لم يعد ظاهرًا.. أضع ذراعي حول كتفه.. وبعد صلاة الجنازة أرتدي حذائي بسرعة وأندس في السيارة إلى جواره.. تتردد الكلمة مجددًا بضراوة أشد..
"متسبنيش"
"متسبنيش"
"متسبنيش"
"متسبنيش"
ألف ذراعي على كتفيه.. أخي يقرأ القرآن في الجهة الأخرى.. نمسك به جيدًا حماية من الاهتزازات.. أنظر في وجهه المختفي تحت الكفن.. فاكاد أراه ينظر لي ويتمتم بسرعة أكبر..
"متسبنيش"
"متسبنيش"
"متسبنيش"
أجد نفسي أتمتم بصوت لم أسمعه بنفسي..
"مش هسيبك"
يتناوله ذلك الرجل الذي لا يعرفه ولا أعرفه، ويدسه في الأرض التي فتحت فاها للجسد المخلوق منها والعائد إليها.. ينهال عليه بالتراب، فأقبض على حفنة منه وألقيها إلى جواره من هنا ومن هناك.. وتزداد الكلمة ترددًا في ذهني.. تنهمر دموعي بلا توقف ويرتفع نشيجي.. يُغطى القبر بألواح الخشب لوحًا تلو آخر..
"متسبنيش"
"متسبنيش"
يحاولون إبعادي بينما لا أستجيب لهم.. قدماي لا تستجيبان..
لا أعرف من يصافحني ومن يعزيني ومن يشد من أزري..
أبي يحتضنني ويطلب مني أن أكون قويًا.. أنا لا أريد أن أكون قويًا.. أنا فقط أريد لهذه الكلمة أن تتوقف.. لا أريد أن أتركه..
يبعدونني رويدًا.. أنظر خلفي وقد أغلقت الأرض أبوابها..
أقول بهمس: مش هسيبك..
ثم أتذكر حين أخرج من باب المدافن أنني لم أقل إن شاء الله..
وأنني لم أتعلم الوفاء بوعدي له..
وأنني لن أتعلم ذلك..
****
لا تزال هناك كلمات محشورة لا تعرف طريقًا للظهور..
لكنها قد تخرج حين تجد الفرصة التي وجدتها كلمات اليوم..
هناك تعليقان (٢):
لأن الرغبة في الكتابة لا تموت.. لكن القدرة على الكتابة هي التي تفعل..
يا سلام عليك
بكيتنى كتير.. ومستنى منك باقى الكلام اللى مش لاقى طريقه دلوقتى وانا واثق انه هايبكينى أكتر
إرسال تعليق