دوّر يمكن تلاقي

بحث مخصص

السبت، ١١ أغسطس ٢٠٠٧

البيت الذى لم يعد هناك

تنويه ضرورى
هذه القصة القصيرة، كتبتها أول ما كتبتها كمشاركة فى منتديات شبكة روايات التفاعلية بموضوع اسمه ( بوح الأمكنة ) للكاتب و الصديق العزيز ( تامر فتحى ) و قد كتبتها كمذكرات شخصية حول مكان عشت فيه سنوات طويلة من عمرى.. لكن هناك من رآها عملًا أدبيًا أو قصة مؤثرة بشكل أو بآخر
ثم طلبت منى الصديقة العتيدة و الأخت الغالية ( أصالة الشريف ) أن أنشرها هنا فى المدونة، و كنت لا أنوى على ذلك فى تلك الفترة نظرًا لأننى أعكف على تحويلها إلى رواية طويلة بنفس الاسم.. لكننى وجدت أن نشرها حاليًا لن يكون مضرًا.. كما أننى لا أحب أن أرفض طلبًا لأختى الغالية أصالة
فأتمنى أن تروق لكم و أترككم معها و كفانى ثرثرة
**************
بوح أمكنتى
( البيت الذى لم يعد هناك )
***************
شقة محرم بك
و هل هناك ما هو أروع من شقة محرم بك
البيت الذى لم يعد هناك
*************
محرم بك .. مولدى و طفولتى و مراهقتى
محرم بك .. حيث حب حياتى الوحيد .. حيث صداقاتى .. حيث تجاربى الفريدة
شقة محرم بك هى شقة خالى الذى لم يتزوج قط
خالى الذى يبلغ من العمر الثمانين عامًا
خالى الذى اعتبرنى بمثابة ابنه
الذى قضيت معه ثلاثة أرباع عمرى .. معه و فى شقته
هذا البيت الصغير .. الذى يحوى غرفتين و نافذة واحدة
البيت الذى ولدت فيه .. فيه نطقت أول كلمة .. خطوت أول خطوة .. ضحكت أول ضحكة
البيت الذى قرأت فيه أول رواية للجيب
البيت الذى بدأت فيه أكتب
البيت الذى شهد تجمعًا لأغرب مجموعة من الصبية ، الذين يتحدثون حول الطاقة الذرية و المخابرات و السياسة و الميتافيزيقا و هم بعد فى الخامسة عشرة من عمرهم
البيت الذى رأيتها فيه .. و عشقتها فيه
البيت الذى لم يعد هناك
بيت ذهب كما تذهب أشياء كثيرة .. أشياء لن تعود .. بسبب حماقات الآخرين
ما أمتع اللحظة التى تقف فيها فى تلك النافذة الوحيدة تطالع الشارع الذى يولد فيه صباح جديد ..
البرد الممتع فى السادسة و النصف صباحًا
أقف متدثرًا بسترة صوفية ، و بين يدىّ كوب نسكافيه قضيت نصف الساعة فى تحضيره بنفسى
لا تمنع السترة الصوفية البرد من التسلل إلى جسدى فيثير فيه رعشة خفيفة .. لكن الكوب يمنح كفى الدفء بينما يمتص منها البرودة
أرشف منه فى تلذذ .. كم أنا ماهر فى صنعه
ثم يأتى عم ( منير ) البقال الذى أعتقد أنه هنا منذ أن ولد هذا الشارع .. يفتح محله الصغير
صباح الخير يا عمور
يقولها لى فى مودة بصوت غلّظه الاستيقاظ منذ فترة قليلة .. يبتسم مع قولها
صباح النور يا عم منير
أرد تحيته على الفور و الابتسامة تُرسم على وجهى و تغمر روحى
ثم يهبط القس ( ويليام ) من العمارة المقابلة ، يهز رأسه لى محييًا ، أهز رأسى له بابتسامة أخرى ، هذا الرجل الذى طالما داعبنى حين كنت صغيرًا .. و طالما كنت أزورهما هو و زوجته ( إحسان ) مع خالى صديقهما الصدوق
يذهب عمو ( ويليام ) - كما كنت أناديه - لعم ( منير ) كى يبتاع منه شيئًا ما ، يصافحه عم ( منير ) و يقبل يده كما تعود ، ثم يغيب عمو ( ويليام ) بالداخل ينتقى ما يشتريه ثم يخرج ليغادر الشارع كله
من البيت المجاور يبدأ الأطفال فى النزول بأزيائهم المدرسية .. يلقون علىّ التحية و هم يسرعون للحاق بالمدرسة
الأتوبيس المدرسى الذى يقف على أول الشارع يدق النفير مرتين أو ثلاث .. فأجد باب بيتنا يُفتح و تهبط الطفلة ( صابرين ) بالضفيرة المصنوعة فى عناية و الشعر اللامع بالزيت .. حقيبتها المنتفخة بالكتب و الشطائر تتدلى من كتفيها مما يجعلها تسير بصعوبة
تلمحنى بطرف عينيها
إزيك يا عمو عمرو
جعلتنى ( عمو ) فى الثامنة عشرة من عمرى .. لها الحق فهى فى السابعة !! .. ألوح لها بكفى فى مودة و حماس
إزيك يا عسولة .. بالسلامة يا حبيبتى
تهرع نحو الأتوبيس مبتسمة بفرحة الطفل الذى يشعر أنه محبوب
ثم يأتى موعدها
تهبط من بيتها .. سترة صوفية كحلية تحيط بها .. حجاب طويل أبيض .. و زى مدرسى كحلى اللون فضفاض .. كما هى تقاليد المدارس الأزهرية
وجهها يشع النور و الصفاء .. تنظر لى على استحياء .. يحمر وجهها خجلًا .. تنظر أرضًا و خطواتها ترتبك بعض الشىء
أحاول إخفاء بسمتى الفَرِحة .. تتسارع دقات قلبى .. أراقبها و هى تخطو نحو أول الشارع تحمل حقيبتها بدورها .. تقف على شريط الترام الأصفر العتيق تنتظر خلو الشارع حتى تعبره نحو الجهة الأخرى
أراقبها حتى تختفى عن بصرى .. ثم أعود لأشرب من النسكافيه الذى تجمد مجددًا
هنا يأتى ذلك التاكسى من الجهة الأخرى للشارع .. سيارة أجرة متهالكة تحمل الرقم 300 ، لا تنغلق نوافذها .. و تفتح أبوابها بالعافية .. يقودها عم ( أحمد ) الذى تقابل نافذة بيته نافذتى مباشرة فى الدور الأرضى كذلك
يوقف السيارة بمعجزة .. ثم يهبط منها ببعض الجهد ، قبل أن يسعل بشدة و يصدر صوت غريب يبعث على الخوف من صدره .. ثم ينفث دخان السيجارة التى اوشكت على الانتهاء و هو يبتسم لى
إزيك يا ( عمرو ) .. إيه اللى مصحيك دلوقتى ؟
ابتسم مرة أخرى
مين قال إنى نمت عشان أصحى يا عمو ؟
يدعو لى بالتوفيق ، ثم يتجه إلى بيته كى ينام .. فقد أنهى جولته ( الفجريّة ) بالتاكسى و حان موعد النوم أخيرًا .. ترى هل هناك زبائن ليجدهم فى الفجر ؟
بعد أن ينتهى كل هذا يبدأ صوت الإذاعة المدرسية التى تقع خلف بيتنا فى التصاعد
موسيقى بدائية بأورج لم يعد أورجًا .. و ما يشبه الطبل .. و بعض الصيحات للقيام بالثنى و المد .. قبل أن يبدأ ذلك الطفل فى قراءة القرآن ، يليه طفل آخر يتلو حديث شريف .. قبل أن تأتى الفقرة الأبدية ( هل تعلم ؟ ) التى تخبرنا بكل ما نعلمه ، و ما لا نعلمه صعب التأكد منه .. ربما شىء من قبيل: هل تعلم أن الإنسان النائم يحلم بالحنكليس فى فترة وضع يده أسفل المخدة ؟
طبعًا لا سبيل للتأكد
أستمع لتلك الترهات المضحكة ، قبل أن يبدأ الفوج الثانى فى النزول للشارع
إنهم طلبة الجامعة .. منهم الحامل لمسطرة حرف ( تى ) رمز الهندسة فى كل العصور ، و منهم من يحمل البالطو الأبيض رمز الطب فى كل العصور كذلك ، إلى أن يثبت أن حامل البالطو نصاب كبير حيث أنه طالب فى كلية الزراعة .. كما كنت أفعل وقتها
يمر الوقت بعدها
يأتى عم ( سمير ) البقّال الثانى للشارع .. لكنه أصغر سنًا من عم ( منير ) .. أكثر مرحًا منه
يأتى من نهاية الشارع حاملًا حقيبته السوداء الهاندباج المحملة بعلب البسكويت التى اشتراها من تجّار الجملة قبل مجيئه .. يلوح لى بيده من بعيد
إيه يا عمووووووووور ؟! .. مش بتزهق من وقفة الشباك دى ؟
يقولها و هو يضحك ، و يسمع نصف أهالى الشارع ما يقول .. فابتسم فى إحراج بالغ .. و أرد بكلمات مبهمة .. لم أعرف يومًا كيف اكلم أحدًا يبعد عنى أكثر من عشرة أمتار
عم ( سمير ) لغزى الكبير .. الذى احترت فى اسمه الحقيقى .. حتى أننى كنت أشك أنه عميل مخابرات مزروع بيننا
نصف الشارع يناديه باسم ( أحمد ) .. و النصف يناديه ( سمير ) - و أنا منهم - .. و ابنه اسمه محمد سلامه
( أحمد ) أم ( سمير ) أم ( سلامه ) ؟
هذا سر سأعرفه فى عالم آخر و ليس هنا
يحين الدور بعد ذلك على باعة الخضار و الفاكهة بعرباتهم الخشبية التى تجر بالأيدى أو تجرها الحمير
ييييييييلا حَمَاااااااااااااااااار و اكسر يا شييييييليياااااااااااان ( ينادى على البطيخ ) .. و بناااااااااااااتى يا عَووووووووونب .. و عجميييييييييييية يا تيييييييييييييين
هذا كان النداء الذى يقوله .. لا أتذكر فى الشتاء ماذا كان ينادى .. فهذا هو النداء الذى اشتهر به
ثم يأتى ذلك الرجل العجوز للغاية الذى - تقريبًا - لا يرى .. إنه يبيع حبل الغسيل .. لكننى لم أره فى أى مرة يحمل أحبال الغسيل هذه
يسير بعصاته الغليظة يضرب بها الأرض أمامه
حااااااااااابل الغااااسييييييييل .. ( ينخفض صوته المتحشرج ) .. يعدلها ربنا .. افرجها من عندك يا كريم
يظل يردد المقطوعتين الأخيرتين حتى نهاية الشارع ليقول هناك
حااااااااااااابل الغاااااسييييييييييييييييل
ثم يختفى عن الأنظار
***********

شقة محرم بك

و هل هناك ما هو أروع من شقة محرم بك

البيت الذى لم يعد هناك
***********
فى غرفتى الضيقة ، ذات الأتربة الأبدية ، التى توجد رغم كل محاولاتى الخرقاء لإزالتها كل ثلاثة أشهر
فى غرفتى أخرج كنزى كل أسبوع .. أستمتع بمشاهدته
ألقيه من أكياسه البلاستيكية لأغطى به الفراش بأكمله ، بينما أحتل طرف الفراش جالسًا القرفصاء ، ثم أبدأ رحلة الغوص فيهم كما يفعل عم ( دهب ) فى أكوام النقود
كنزى الحبيب
الروايات و القصص و المجلات المصورة
( رجل المستحيل ) .. ( ملف المستقبل ) .. ( كوكتيل 2000 ) .. ( ما وراء الطبيعة ) .. ( سوبر مان ) .. ( ميكى ) .. ( الشياطين الـ 13 ) .. ( المغامرون الخمسة ) .. ( المكتب رقم 19 ) .. ( ميكى جيب ) .. ( الكرنك لنجيب محفوظ ) التى لا أعرف ما الذى أتى بها هنا .. بأوراقها الصفراء
( فارس الأندلس ) .. ( فانتازيا ) .. ( سيف العدالة ) .. ( الأعداد الخاصة ) .. ( أوسكار ) و غيرهم و غيرهم
أقوم بترتيبهم مجددًا .. أضعهم فى أكياسهم ( لم تكن عندى مكتبة وقتها ) .. أضف إليهم الجديد إن كان هناك كذلك فعلًا .. أضع فى كل كيس ورقة – غالبًا ما تتمزق بعد يومين – بها أرقام الأعداد التى توجد فى الكيس
ثم بعد ساعتين فى هذا المجهود الغريب أعود لأرصهم فى الدولاب من جديد
هنا أشعر بالراحة .. أستلقى على ظهرى أطالع السقف .. تنمو الخيالات فى ذهنى .. يهدر بالأفكار .. فأنهض فى سرعة
أهرع إلى الصالة ، ألتقط الكشكول الجديد و القلم الأسود ( البيك ) و أبدأ فى الكتابة
************

شقة محرم بك
و هل هناك ما هو أروع من شقة محرم بك
البيت الذى لم يعد هناك
************
محاولاتى للضحك على خالى فجرًا و النزول إلى السايبر الذى لا يغلق أبوابه مطلقًا
وضع الوسادة أسفل الغطاء ، تكويم الأغطية بشكل يوحى بنائم فى وضع الجنين
صنع لفة من القماش الأسود و وضعها فى مكان الرأس ثم أضع عليها الغطاء لأبرز قمتها فقط .. لتبدو كنائم يغطى رأسه
ثم التسلل على أطراف الأقدام .. أتوقف حين أشعر به يسعل من الغرفة المجاورة .. أتجمد حين يتقلب فى فراشه و هو يتأوه من عظامه
ثم يعود لهدوئه و يغرق مرة أخرى فى النوم
فأعود للتسلل مرة أخرى .. أخرج فى صمت .. أضع المفتاح فى الباب من الخارج و أغلق الباب بعد أن أرفع المزلاج بالمفتاح حتى لا يحدث صوتًا
و حين أعود فى الصباح أجده لا يزال نائمًا .. مازالت كل قطعة فى مكانها .. دورة المياه – الدليل الوحيد على استيقاظه – ما زالت كما هى .. وضع المسّاحة التى تعترض الباب كما هو .. لم يدخلها إذن
أندس تحت الفراش مجددًا .. فقط لأسمعه يتأوه مجددًا و هو يتقلب ، قبل أن ينهض فى تؤدة و يسير فى بطء معتاد نحو دورة المياه
أبتسم فى سرى
لقد عدت فى الوقت المناسب
***********
شقة محرم بك

و هل هناك ما هو أروع من شقة محرم بك

البيت الذى لم يعد هناك
************
أمر الآن من أمام الشارع
عم منير لم يعد يقف فى محله بل ابنه نبيل
لم يعد عم منير يقوى على الجهد الذى كان يبذله قديمًا
القس ( ويليام ) مات .. عمو ( ويليام ) لم يعد هناك .. رمز آخر يهوى من رموز الشارع .. من رموز حياتى
رمز آخر يهوى إلى صندوق الذكريات
عم ( أحمد ) لم يعد يطوف بتاكسيه العتيق المتهالك .. يقضى وقته الآن فى نافذته يدخن السجائر و يشاكس فى أهالى الشارع
عم ( سمير / أحمد / سلامه ) كبر فى السن قليلًا .. لكن آلامه التى كانت تختفى خلف مرحه قد بدأت تظهر جلية على جبينه الذى تجعد مبكرًا
حتى بيتنا
تغير شكله بعد أن سكنوا فيه أولئك القوم

من أنتم حتى تغيروا هذا المكان ؟

ماذا تعرفون عنه ؟

ما ذكرياتكم فيه ؟
هذا البيت الذى سكنه خالى العزيز منذ عام 1958 م ، حينما جاء إلى الإسكندرية من بلدتنا الأصلية أسيوط
أقف عند عم ( سمير ) .. أشرب فيروز بالتفاح التى أعشقها و أتقاتل معه ليأخذ حسابها
أراقب البيت الذى لم يعد هناك
ثم يتناهى إلى مسامعى ذلك الصوت مقترنًا بضربات عصا غليظة على الأسفلت
حاااااااااااااابل الغااااسيييييييل .. ( ينخفض الصوت ) .. يعدلها ربنا .. افرجها من عندك يا كريم
****************
صفحات من ذكرياتى الأليمة
Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...